كأن "فيروس كورونا" صار قدراً مقدوراً على العالم... ولا مفر من الخضوع لما يؤسس لفرضه من متغيرات راهنة في الأرض؛ بأرقام إصاباته وقتلاه، وضغوطه السياسوية التي تستهدف تغيير أنماط التواصل في العالم، بشعار "التباعد الاجتماعوي"، مظلة لتكتيك استصناع حالة تفتيت العالم القائم أكثر فأكثر؛ ولينتقل إلى بدء الدخول في طور تدمير "الدولة الوطنوية"؛ والاستعاضة عنها بنموذج "الدولة المظلة العولموية" الواحدة والمتشتتة والتي تحقق "قاعدة المتصل المنفصل" والمحكومة بالرابط السيبراناتوي؛ حيث كما يُقال في اللهجة الشعبوية المصرية: "المُخْرِج عَاوِزْ كِدَه"!!

إن تفكيك خطاب العقل النخبوي الاستراتيجوي في تجلياته الوظيفوية يدرك مقدار القصدوية المريبة هذه بمسألة استصناع وترويج فيروس كورونا عبر "التلاعب الجينوي" في بنيته؛ وما يعمق الشعور بنهج التوظيف السياسوي لما جرى ترويجه باصطلاح "الجائحة" هو أن كثافة وطقوس الإرعاب بفيروس كورونا تمثل ولا تزال حالة خاصة مستجدة؛ تنتمي إلى نسق "حروب الجيلين الرابع والخامس" والذي تُعَدُّ "الميديا" أبرز أدواتهما الفاعلة؛ باستخدام تكتيكات الهدم من الداخل.

*****

في التدوينة السابقة من هذه المتسلسلة، كشفنا من تفكيك نص مقالة "هنري كيسنجر" ملامح توظيف الجائحة في تنفيذ مستهدف بنيوي مستجد قائم على السعي للانتقال إلى المرحلة الجديدة من النظام العولموي؛ واتضح من أغراض هذه المقالة الكيسنجرية التمهيد لإعلان فشل "نظام حكومة الدولة" بقارات العالم كله في مواجهة ذلك الفيروس وتداعياته؛ ويندرج في هذا الحكم كذلك "نظام الحكومة الوطنوية" الأميركية؛ والصينية والروسية؛ و...و...إلخ

وفي التدوينة الراهنة ننتقل لتفكيك خطاب المفكر الأميركي " أفرام نعوم تشومسكي"؛ والذي يقف في الكفة الثانية السياسوية المعادلة لكفة "هنري كيسنجر"؛ إذ يوصف بالسياسوي؛ والعالم اللغوي؛ و"الناشط"؛ وعليكم الانتباه لتعبير "الناشط"؛ لأنه يضع "أفرام تشومسكي" في المربع النخبوي ابن المرحلة والعصر المشهور بميوله اليساروية من المربع الأميركي.

*****

"هنري كيسنجر" نشر مقاله في صحيفة( The Wall Street Journal ) ذات الصوت الناطق والخادم لماكينة الرأسمالوية العولموية؛ وهنا "تشومسكي" يقوم ببث أفكاره ورأيه حول الجائحة في مقابلتين مع المجلة الأميركية (Labor notes) وتلفزيون (ديم 25) ببرنامج "الديمقراطية الآن". ولعل هذا الإسم يكشف المربع السياسوي الذي يقف فيه تشومسكي؛ أي التيار اليساروي من الديموقراطيين في السياسة الأميركية؛ لذلك تراه يقف موقف المنتقد للسياسة الخارجية للولايات المتحدة؛ وفي تضاد معاكس مع "نمط رأسمالوية الدولة". وهو كثيراً ما يعلن انتماءه لعصر "التنوير والاشتراكية التحرروية".

لذلك يجسد نعوم تشومسكي نمط العقل النخبوي الكبير في تهويماته؛ وتنظيراته التي تدور في حواف المُتَمَنَّى والمتأمل؛ والمرتبط بثنائية الديكتاتورية والديموقراطية؛ ومن الاسترابة اختلاق حالة ارتباط هذه الثنائية بمسألة "الفيرسة" وإصباغ سمة "العولموية" عليها.

بل إنه كعادة النخب يؤكد أن "الفيروس جزء صغير من أزمات الطبيعة المقبلة التي ستهدد مصير الجنس البشري". هو هنا يوالي استصناع الصورة بعيداً عن "نهج المؤامرة". ويصرُّ على ممارسة لعبة "فيرسة العالم المقصودة" بقوله:"إن كورونا يجب أن يدفع الناس إلى التفكير في نوع العالم الذي يريدونه"!!

إن العناوين التي يقدمها "تشومسكي" لمقابلاته تلعب في حدود مربعه الفكراني والسياسوي؛ بقوله أن "فيروس كورونا (كوفيد-19) كشف عيوب النظام العالمي"!... وفي الثانية: "إنها فرصتنا لخلق عالم مختلف أو لن يتحقق ذلك"!

إن هذا الحكم المطلق في الرأي المحيط بالجائحة بغرض تعرية المرحلة الراهنة من النظام الاقتصادوي والسياسوي في العالم لا ينفلت كذلك عن مقصود "هنري كيسنجر" نفسه؛ والهابط بالمطرقة على رأس المرحلة الراهنة من فكر الرأسمال العولموي؛ والتي تدفع باتجاه استغلال ذلك الفيروس المستجد ليكون محركاً لاستصناع النمط الأعمق من الاقتصاد السياسوي للعولمة.

*****

"هنري كيسنجر" يقود اتجاهات الدفع باتجاه "تحطيم وتبديد نمط الدولة الوطنوية" في كل قطر؛ وتسليم قيادة تدوير وتحريك وتشغيل المليارات من البشر عبر "آليات الحكومة الافتراضوية المركزوية" المحلقة فوق العالم كله؛ والتي توصف فيما يُسمى فكر المؤامرة بـ "الحكومة الخفية".

وهنا يأتي "نعوم تشومسكي" ليقف على الأرضية نفسها ولكن في المربع المقابل والخادم لفكر العولموية بأطوارها المتتالية؛ انطلاقا - هو وكيسنجر - من التصور بأن الطور الراهن من النظام الرأسمالوي العولموي قد استهلك أغراضه؛ إذ لم يعد التصارع قائما بين "نظام رأسمالوي" و"نظام شيوعوي"؛ ولكن بين "النظام الرأسمالوي المركزوي الفرداني/أميركا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا أنموذجا" وبين "النظام الطرفوي المتشكل من رأسمالوية الدولة/ الصين وروسيا أنموذجا".

والمرحلة الراهنة اتكاء على الفيرسة في التصارع تستهدف إنجاز الخلاص من "نمط رأسمالوية الدولة" والذي تضخم إلى حد التسرطن/الصين أنموذجاً؛ بتفكيك هذا النمط ومحاولة شخصنته فردانويا بعد إدراك العقل الرأسمالوي المركزوي أنه هو الذي "استصنع العفريت" فتوحشت الصين/الدولة اقتصادويا وعولموياً؛ بما يهدد مواقع الرأسمالوي المركزوية في الهيمنة والقيادة.

"نعوم تشومسكي" بتصوراته الرومانسوية يقرر بقراءته اليساروية:"أن الخيارات المتاحة بعد فوات تلك الجائحة ستكون إما دولاً أكثر استبدادوية ووحشوية، أو أخرى تجري إعادة بناء جذرية لمجتمعاتها وفق شروط أكثر إنسانوية"!!

وهذا التصور يقترب من "حالة الحلم الرومانسوي"؛ لأن تشومسكي لم يحدد من هي تلك الدولة التي ستكون أكثر توحشاً؛ ومن هي تلك الدولة التي ستراعي الشروط الإنسانوية؟ لعله يقصد "نظام وفكرة الدولة" في حد ذاتها. "تشومسكي" يتحرك من ثابت فكراني لديه بأن "العالم سيتغير"؛ بعد كورونا وبسببه؛ ولكنه يقوم بالتهويم والإبحار في المتمنيات؛ أو المأمولات التي يحلم بها المفكرون في انتظار تجسيد المتوهمات والمتخيلات.

لكن التجربة الرأسمالوية الأميركية بكينونتها لا تزال تهيمن على تفكير "تشومسكي" كأرضية لتطوير النظام الاقتصادوي والسياسوي العولموي. والملفت أنه يشابه "هنري كيسنجر"؛ فكلاهما يرتد إلى ماضي الدور الأميركي في الحرب العالمية الثانية بقوله: "نحن بحاجة إلى مثل هذه العقلية للتغلب على الأزمة على المدى القصير؛ والذي تتمكن فيه الدول الغنية من مساعدة الدول الفقيرة، فإذا أردنا التعامل مع هذه الأزمة علينا الانتقال إلى شيء يُشبه التعبئة في زمن الحرب..."

"تشومسكي" مثل "كيسنجر" يرى إلى أن بلاده (الولايات المتحدة الأميركية) ساعدت العالم في الخلاص من الوحش الهتلروي؛ وأنها أنفقت الكثير على الحلفاء؛ لذلك:" إن بلداً غنياً مثل الولايات المتحدة لديها الكثير من الموارد التي تساعدها في التغلب على المشكلات الاقتصادوية والاجتماعوية الناتجة عن الفيروس، وتستطيع القيام بما فعلته خلال الحرب العالمية الثانية..."!!

وتبدو الصورة أكثر وضوحا حول دفع الرأسمالوية المركزوية في صورتها الأميركية لتواصل دورها البنيوي بتعميق النهج العولموي بقوله:" رغم أن هذا القرار تسبب في كبر الدين، ولكنه في النهاية ساعد على إنعاش عمليات التصنيع الأميركي، والخروج من الكساد، وفيما بعد استعادت قدرتها على النمو، نحتاج إلى هذه العقلية الآن من أجل التغلب على هذه الأزمة على المدى القصير" بحسب تعبيره.

ويستوقف العقل التفكيكوي هنا إشارة كاشفة للدافع باتجاه تعميق العولموية أي:"إنعاش عمليات التصنيع الأميركي والخروج من الكساد". وهذا يعكس المأزق الذي تعيشة الرأسمالوية المركزوية الأميركية راهناً أمام حالة الجموح الفذ في الاستصناع والغزو بالترويج التي يمثلها الرأسمال الدولاتي الصينوي؛ وهذا التصور محكوم بحركات الاستفزاز والتشاكس التي قام بها "دونالد ترامب" مع الصين منذ جلس في كرسي الرئاسة الأميركية.

*****

"تشومسكي" يتمنى استنساخ حركة التاريخ لتتجاوز الرأسمالوية الأميركية مأزقها البنيوي في اقتصاد العولموية: "نحتاج إلى هذه العقلية الآن من أجل التغلب على هذه الأزمة على المدى القصير".

بل إنه يرى إلى أن: "العالم معيب وليس قوياً بما فيه الكفاية للتخلص من الخصائص العميقة المختلة في النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي كله"؛ ولكنه لا يخرج في التصور عن المتمنى النظرياتي المخادع؛ كعادة النخب المتكلمة على المقاهي لدينا فقط؛ أي بالدعوة لاستبدال النظام الراهن بــ "نظام عالمي إنساني كي يكون هناك مستقبل للبشرية قابل للبقاء". ولكنه لم يحدد خريطة طريق الوصول إلى هذا المتمنى؛ في إطار تصوره ـ بعد الجائحة ـ "بدول أكثر استبدادية ووحشية، أو أخرى تجري إعادة بناء جذرية لمجتمعاتها وفق شروط أكثر إنسانية".

إن "نعوم تشومسكي" يساروياً في الوقت نفسه يقدم تخوفه بعد الجائحة من أمرين نظر إليهما على أنهما أكثر رعبا وخطورة من كورونا: "الحرب النووية والاحتباس الحراري".

وهذه الانتقالة في التخوف الخارجة عن "جائحة كوفيد ـ 19"؛ وقد استصنع "وحشا أسطوروياً" تشير إلى"الاحتباس الحراري" متناسياً أنها ظاهرة بنيوية لصيقة بطبيعة العصر الاستصناعي الذي نعيشه راهنا؛ ولا علاقة لها بالفيروس المتهم؛ أما الحرب النووية؛ فالتخوف منها نمطوي سابق للجائحة؛ فضلاً عن تناقص أو تقلص عملية الترويع بها؛ في ضوء تعملق النزوع لتعميم فكرة العولموية؛ ما يعني أن التخوفين اللذين أبداهما "نعوم تشومسكي" هما من نوع "الترف الفكراني" لمفكر يساروي الاتجاه يمارس التنظير الناعم؛ وناشط مماثل لنخب المقاهي والصالونات في العالم العربي.

ولعل هذا التصور هو الحاكم على توقعاته بثورات الناس كما يقول: "ليصنعوا العالم الذي يريدون العيش فيه". ويساروية "نعوم تشومسكي" السياسوية تجعله يتخذ "فيروس كورونا" غطاء للتنديد بالطور الراهن من الرأسمالوية العولموية؛ وحسب تعبيره :"فالرأسمالية/ النيوليبرالية تقف وراء التعامل الفاشل للولايات المتحدة مع جائحة كورونا".

ويعمق "تشومسكي" تصوراته تلك بأن" الوباء العالمي الحالي مؤشّر على وجود مشكلات أساس في النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي... فالنمو الاقتصادوي في العالم يصبُّ في مصلحة الأغنياء، بينما يبقى العمال في وضع لا يحسدون عليه، وذلك سيؤدي إلى توترات اجتماعوية وتغيرات اقتصادوية جذري"!!

*****

ويمارس "تشومسكي" المخادعة بنقل "قضية الفيرسة" إلى مربع آخر يتفق مع منظومته الفكرانية؛ وكأنه يجتهد لنفي "فكرة المؤامرة" المحيطة بفيروس كورونا بقوله: "من المعروف منذ فترة طويلة أن الأوبئة قد تحدث في أي وقت، وكان من المتوقع أن نشهد أزمة وباء كورونا وهو فيروس آخر؛ خاصة وأنه نسخة أخرى مُعدلة من وباء سارس، لذا كان بالإمكان عمل لقاحات، وتطوير طرق لحماية البلاد من الأوبئة التاجية المُحتملة، والمعلومات كانت موجودة، لكننا لم ننتبه، وفي أكتوبر 2019م، كانت هناك محاكاة واسعة النطاق في الولايات المتحدة، وأظهرت أن العالم مُعرض لخطر وباء مُحتمل، ولكن لم يفعل أحد شيئًا".

وأهمية هذه الكلمات السياسوية تنطلق من أنها تحاول أن تعلق الجرس في رقبة "دونالد ترامب" محل عدم التوافق عليه مما يسمى اليسار الأميركي؛ أو الحزب الديموقراطي الكاره لمرحلة ترامب؛ تحديداً وهو يثير المزيد من الزوابع كنموذج للرأسمالوية المركزوية الجديدة حين تبدي تبرمها وتخوفها من نمط رأسمالوية الدولة التي تتوج الصين حالتها.

*****

"تشومسكي" يسعى لإدانة الجمهوريين في مسألة الجائحة؛ وكأن الديموقراطيين أنفسهم بُرَءَاء من دم اللعبة. فيحاول أن يعيد توظيف تسريبات سيناريوهات الفيرسة المتوقعة بتعليق الأتهام في ساحة ترامب؛ أو حكومته الراهنة بصرف النظر عن "حقيقة تخليق الفيرس وتعميمه"؛ عبر ترويج الاتهامات للحكومة الأميركية بأنها لم تستعد لفيروس كورونا بطريقة مناسبة أو تقلل مخاطره.

"تشومسكي" يهرب من "فكرة المؤامرة" و"قصدوية العمد" في تخليق وتطوير الفيروس إلى اعتباره قدراً مقدوراً؛ وأن الحكومة الأميركية لم تستعد لهذا الفيروس الذي يعد "نسخة أخرى مُعدلة من "وباء سارس"، لذا كان بالإمكان عمل لقاحات، وتطوير طرق لحماية البلاد من الأوبئة التاجية المُحتملة، والمعلومات كانت موجودة، لكننا لم ننبته".

*****

هل هناك ثأر سياسوي حاكم بين نعوم تشومسكي والجمهوريين الأميركيين مجسداً في النقمة على دونالد ترامب؟ إن تشومسكي هو ابن الرأسمالوية المركزوية الأميركية؛ ولا ينفصل عن نسيجها حتى مع خصوصوية موقفه الذي قد يبدو أنه يذكرنا بالصراع السوفياتي/الأميركي السابق.

لذلك يستغل الجائحة ليغسل النمط الاقتصادوي الرأسمالوي المهيمن والذي يقف في مربع التضاد الظواهروي منه بقوله:"الأزمة الحالية أثبتت فشل سياسيات السوق حين سلمنا مصيرنا للاستبداد الخاص لشركات الأدوية التي لا تخضع لمساءلة الجمهور، بل لمصلحة نفعية للنيوليبرالية المتوحشة التي تتحكم باقتصاد السوق وفلسفة العرض والطلب على المستوى العالمي، حيث الطاعون الجديد المتمثل في النيوليبرالية يقودنا إلى الهلاك".

والقراءة التفكيكوية لهذا الرأي المهم تؤكد ما ذكرته في التدوينات الثماني السابقة؛ والتي توصلت للقول فيها بأن "مؤامرة فيرسة العالم" مقصودة باستصناع فيروس كورونا في المعامل الأميركية؛ وامتلاك دستور تخليقه في المعامل وسيناريوهات تعميم العلاج الخاص به؛ بهدف إحلال الحروب البيولوجوية بديلاً عن الحروب التدميرية بالأسلحة؛ لأنها ستقوم بامتصاص الرأسمال الشرس من حقول تصنيع السلاح المدمر لتندرج في قطاعات إنتاج الدواء عولمويا.

وستكون الربحوية هنا معظمة لأنها بحجم عدد سكان الكرة الأرضية وبفيروسات معقدة البنية الجينوية؛ وموجهة لتحقيق ضربات محددة؛ وكانها البديل لنهج الحروب النووية؛ فيما صناعات السلاح تضر مناطق الحروب المسلحة فقط. لذلك ليس من المدهش أن يربط تشومسكي التهديد النووي بالتهديد الفيروسوي؛ وهما في الواقع ليس هناك أي ترابط بينهما.

تشومسكي مستغلا الجائحة يمارس اللعبة النخبوية الحالمة التي يمارسها جُلَّاس المقاهي في بلادنا "الشرق أوسطية" بقوله الطريف:" إن الإجراءات الاستثنائية التي تطبقها الحكومات من إغلاق للحدود الداخلية والخارجية، وحظر التجوال في بعضها، واستخدام القوة في تطبيق إجراءات العزل، كما حدث أو يحدث في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا ودول أخرى عديدة قد يؤدي إلى تدهور في الديمقراطية والنزوع إلى الاستبداد في كثير من مناطق العالم، يضاف إليها انهيار الأسواق والنظام الاقتصادي العالمي"!!

*****

والذي يدعو للشعور بالسخرية أن تشومسكي المشغول فقط بـ"الديموقراطية" يصف اللحظة الراهنة بأنها "لحظة تاريخية حاسمة للإنسان" ليس فقط بسبب فيروس كورونا، بل لأن الفيروس يوقظ الوعي بالعيوب العميقة التي تواجهها البشرية. لذلك يلعب على وتر الديموقراطية "الخيارات المتاحة ستتراوح بين تركيبة دول وحشية شديدة الاستبداد، أو إعادة بناء جذرية للمجتمع تقوم على أسس أكثر إنسانية تهتم بالاحتياجات البشرية بدلاً من الربح الخاص".

ويواصل تشومسكي التحلم الرومانسوي بالقول:"هناك احتمال أن ينتظم الناس ويقوموا بخلق عالم أفضل بكثير سيواجه المشكلات الهائلة التي نواجهها في المستقبل القريب. الحرب النووية وهو أقرب مما كان عليه من قبل. بالإضافة إلى مشكلات الكوارث البيئية التي لم يعد هناك تعافي منها بمجرد وصولنا إلى تلك المرحلة وهي ليست بعيدة، ما لم نتصرف بشكل حاسم".

ويعمق ذلك بالتساؤل "عما إذا كان العالم سيعيد تنظيم نفسه لخلق عالم يعتمد على الاحتياجات البشرية أكثر من الربح، والذي إن تحقق سيمكننا من تجاوز الأزمات الأخرى مثل الحرب النووية أو الكوارث التي ستنتج عن الاحتباس الحراري."

والمدهش في الأمر أن نعوم تشومسكي – من دون تقديمه البرنامج البديل كمفكر - يوجه جائحة كوفيد-19 لتكون مبرراً لتحقيق مستهدفه السياسوي بالقول:" إن الأزمة الحالية أثبتت فشل سياسات السوق والتي فاقمت المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، إذ أن ما عرقل جهود مواجهة مثل هكذا وباء بعد كل هذه السنوات من التقدم هو (الطاعون النيوليرالي)، خاصة وأن المعلومات دائما ما تكون متوفرة، ولكن الانتباه لها وسط هذا النظام لا يكون إلا إذا جاء من خلفها منفعة". إن "إحدى أسباب كورونا هو جوهر هذا الاقتصاد الذي دفعته النيوليبرالية إلى زيادة حدة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية". معنى ذلك بوضوح أن نعوم تشومسكي يؤكد تحقق "نظرية المؤامرة" وقصدوية مسألة الفيرسة الراهنة؛ لأن خلفها يقف الرأسمال الدواءوي العولموي.

*****

وفي حواره مع المجلة الأميركية (Labor notes)، يعمق تشومسكي هذا التوجه بالتركيز في القول على " أنه إذا لم نتصد لأصول هذا الوباء، فسيظهر ثانية، وربما في صيغة أكثر جسامة، لسبب بسيط يتمثل في تلاعبات النظام الرأسمالي، الذي يحاول من أجل مصلحته الخاصة، خلق ظروف تجعل الوباء بحسبها أكثر شراسة". وما يواصل التأكيد عليه هو إبراز تداعي قدرات الدولة القائمة أي أن" استمرار كورونا هو نتيجة لانهيار المؤسسات التي كان يمكنها أن تتعامل معه لو كانت تلعب دورها". ما يعني" أن النظام العالمي القائم مُصمِّمٌ على السقوط نحو العدم".

هكذا يفضح تشومسكي اللعبة الرأسمالوية أكثر بالإشارة إلى أن "دونالد ترامب حين كان الوباء يكشر عن أنيابه واصل تقليص تمويل فروع الحكومة الأميركية المرتبطة بالمنظومة الصحية وقد عانت قضما لميزانياتها وتدميرا لمخططات بأكملها". ويؤكد أن هذا النسق من تصرفات الحكومة الأميركية تواصل "بوصول رونالد ريغان إلى السلطة طيلة سنوات 1981/ 1989 وقيامه بتطبيق زخم السياسات المهيكلة المسماة الليبرالية الجديدة مع تفعيل تطبيق سياسة ضريبية لصالح الأكثر ثراء".

رونالد ريغان حسب تشومسكي وضع صيغة الدولة في مناخ الإشكالية؛ إذ قام ببلورة فكرة "الحاجة إلى أقل عدد ممكن من المرافق العمومية... حكومة تدعو إلى شرعنة الجنات الضريبية؛ وشرعنة أن يُستعاد من السكان الأسهم المقدر قيمتها بعشرات آلاف الدولارات".

لذلك تطور نمط الدولة كما يرى تشومسكي "لتكون ملجأ عندما يواجه القطاع الخاص صعوبة، لكن حينما يتعلق الأمر باحتياجات الشعب، تصم الحكومة آذانها. وبذلك صار تدبير المستشفيات في الولايات المتحدة الأميركية، خاضعا لمنطق المقاولة الخاصة، بغير قدرات داعمة. وضع لا يستقيم، حتى قياسا لظرف عادي، وداخل أفضل المستشفيات." فهل هذا يمكن أن يقود للاستنتاج المنطقوي بأن تشومسكي يبشر بحلول زمان الخلاص من نمط الدولة الوطنوية التي لا تهتم فقط إلا برعاية الرأسمال الخاص وتحرص على تنمية ثرواته.

*****

نعوم تشومسكي، يعتبر أن "فيروس كورونا"، كشف انحرافات "رأسمالوية السوق" لذلك يصل للمطالبة بالضرورة الفورية لخلق وضع تضامني جديد وكذا فيما يتعلق بطبيعة الصراعات المجتمعوية... وكما يبدو فالأمر محض تشوقات يساروية من المنظور الرأسمالوي المحكوم بقبضة التطور للنوع؛ وأول ضحاياه تقليص وتدمير وتبديد أية جهود حكوماتوية تتدخل وتتحكم في قانون الربحوية بمنظور "دعه يعمل دعه يمر". والمرحلة المستقبلية التي يجري الترتيب لها واستغلال متوهم خطر كورونا هي الخلاص من "إرث نظام الدولة بحكومتها؛ خاصة إذا كانت هذه الدولة منتمية على حد سواء إلى نسق الرأسمالوية الحكوموية/ الصين أنموذجا" وكذلك نسق الرأسمالوية الفردانية التي تتحكم في تسييرها "الأحزاب الرأسمالوية/ أميركا أنموذجاً".

والطريف أن نعوم تشومسكي يرى إلى دونالد ترامب في مسألة الجائحة باعتباره قمة الجبل؛ لذلك يقوم بالتخفيف من انتقاده قولاً:" وحتى نكون صريحين، لا يتحمل ترامب وحده مسؤولية ذلك ما دامت جذور الوضعية الحالية عميقة ويلزمنا حقا التفكير فيها".

فما هي قاعدة الجبل التي يرى تشومسكي إليها:" نجدنا أمام إمكانيتين. ربما شركات الأدوية، التي تخضع في نهاية المطاف للمنطق الرأسمالي الطبيعي بقوله: "سلمنا مصائرنا لشركات الأدوية وهي ديكتاتوريات اسمها المؤسسات الخاصة ولا تخضع للمساءلة". وهذه الشركات تبادر اليوم من أجل تحقيق مكاسب غدا؛ وقد ينهار كل شيء خلال سنوات لكن ليس مُهمَّا في نظرهم لذلك لم تسرع تلك الشركات إلى القيام بأيِّة مبادرة تذكر؛ لذلك ينبغي لجهة ما، وليست شركات الأدوية، تسديد الفواتير"؟

هنا تتكشف ملامح نخبوية تشومسكي الكلامية حين يستصنع "من الحبة قبة" كما يقال ولكن لا تتطابق حسابات الحقل مع حسابات البيدر؛ فلا الدولة ناجحة أو منحازة للشعوب ولا شركات الأدوية تبادر لأنها مهتمة فقط بتحقيق الربحوية لذلك هناك من ينبغي أن يسدد الفواتير؛ فمن هو؟ إنه كالعادة متوهم المثقفين وبغبغوات النخب التي تمارس التضخيم في الظواهر ظناً بإحداث نقلات في أنظمة إدارة العالم. والمسألة أنه من "تشومسكي" إلى "كيسنجر"... يثبت أن من أطلق "فيروس كورونا" لا يحبسه؛ ويتجلى السيناريو المنتظر لتدمير الدولة الوطنية ب-"فيروس كورونا"!!

*****

وفي التدوينة العاشرة لاحقاً يكون الاقتراب التفكيكوي من خطاب المفكرالأميركي "فوكو ياما" حول الجائحة لاستكمال النظر إلى صورة افتعال ضغوط فيروس مستصنع ليكون مصدر لإرعاب شعوب الكرة الأرضية وتطويعها للاندماج في قوالب جديدة للعولموية المهيمنة وأول ملامحها الخلاص من "الدولة الوطنوية"

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).